Friday, May 30, 2014

عدوان إسرائيلي جديد على غزة... الإمكانية والمثبطات


مع مرور خمس سنوات على العدوان الإسرائيلي على قطاع عام 2008-2009 ما زالت الكثير من الأسئلة تطرح، وما زال العالم يتذكر الجرائم الإسرائيلية بحق المدنيين والعزل، فقد منع الاحتلال إخلاء الجرحى؛ وقصف من الجو والبر المدارس، والمستشفيات، وقوافل المؤن، وحتى المقرات التابعة لمؤسسات للأمم المتحدة. مما أدى إلى استشهاد مئات المدنيين منهم بينهم الأطفال والنساء والشيوخ، بل أن عائلات بأسرها أبيدت، وآلاف كثيرين أصيبوا بجراح، ونحو 60 ألف شردوا من منازلهم، كما أن طواقم الإسعاف لم تسلم من الاستهداف بوسائل الموت الجماعي، ومنها الفسفور الأبيض السلاح المحظور دولياً.

مشاهد دموية مؤلمة كثيرة سجلتها عدسات الكاميرات ورصدتها أقلام الكتاب والصحافيين، وكل ذلك رغم الإغلاق الفضائحي الذي فرضته إسرائيل على التغطية الإعلامية، لكن غزة التي اعتادت على امتصاص الضربات لتخرج في كل مرة أقوى من سابقاتها، نهضت كطائر الفينيق من بين الرماد لتلملم جرحها، وها هي اليوم ما زالت قادرة على التحدي بالقدر ذاته من الصمود. فهل تعاود إسرائيل مهاجمتها من جديد؟

تمهيد
لعل السؤال الأبرز، الذي ما زال الإسرائيليون غير قادرين على الإجابة عليه رغم مرور السنوات، هو، هل حققت الحرب على غزة أهدافها، بمعنى هل فعلاً حركة حماس باتت أضعف من السابق؟ وحتى نكون منصفين في إجابتنا، ونستعرض الصورة التي يراها الآخر من زواياها المختلفة، نقول إن إسرائيل لا تمتلك الإجابة الشافية، فما زال الجدال يتعمق بين ساستها وجنرالاتها، فهناك من يعتقد أن العدوان ساعد الحركة على تعزيز شعبيتها في الشارع الفلسطيني ولم يؤثر على قدراتها التسليحية، بل على العكس دفعها إلى المزيد من العمل والاستعداد للمواجهات المقبلة، ومقابل ذلك يرى بعض الخبراء الإسرائيليين أن العدوان حقق الردع المطلوب، ولهذا السبب بالذات ما زالت الحركة تفضل التهدئة على القتال. 

والجدل المتفاعل في إسرائيل منذ سنوات حول قطاع غزة يذكرنا بالقصة التي تقول إن عصبة العميان اصطدمت بفيل: أحدهم يتحسس ساقه ويعلن لرفاقه بأنهم أمام عامود، الثاني يمسك بالذيل ويقول إنه يجد حبلا أما الثالث فيمسك باذن الفيل ويتوصل إلى استنتاج بأنه يداعب غربالاً والرابع يلمس جلد الفيل ويكون مقتنعا بأنه يقف أمام كتلة من الفولاذ. أي منهم لم يتوصل للحقيقة الكاملة.. فزوغان البصر الذي يغشي عيون المجتمع الإسرائيلي منذ حرب عام 1967 يجعل من الصعب عليه أن يلاحظ أن الصراع غير قابل للحسم بالقوة، فالإنسان الفلسطيني يدافع عن أرضه وشرفه وحتى لو أراد الاستسلام فإلى أين يذهب؟

العدوان على غزة والتغييرات الإقليمية

تشهد العلاقة بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وإسرائيل في الآونة الأخيرة توتراً ليس في الجديد، وهي معادلة تدفع المسؤولين في الدولة العبرية إلى التحذير من آن إلى آخر بإمكانية شن عملية عسكرية واسعة ضد القطاع، لكن هل هذا السيناريو يمكنه التحقق في ظل التغييرات التي حصلت وتحصل في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما في مصر التي تعتبر حجر الزاوية في السياسة العربية؟

إن حالة الثوران في الشارع المصري والواقع العربي الجديد وجملة عوامل إضافية تدفع إسرائيل إلى العيش في قلق مستمر.

وعليه، فلا يمكن لإسرائيل المقامرة في شن هجوم جديد على غزة في المدى المنظور على الأقل، لإدراكها أن فعلاً كهذا قد يشعل المنطقة بأكملها، وربما يكون بداية النهاية للدولة العبرية، التي تلبس البزة العسكرية منذ عام 1948، وتعيش هاجساً أمنياً لا يتوقف، ومن هذا المنطلق، يقدر جنرالات إسرائيل أن التهدئة مع فصائل المقاومة الفلسطينية الآن أفضل الخيارات المتاحة كونها تمنحهم المزيد من الوقت لمجابهة تحديات إستراتيجية أكثر تعقيداً تشهدها دول الطوق وكذلك إيران، وهم يرون أن أنجع الأساليب في التعامل مع حماس وفصائل المقاومة يتمثل في مواصلة سياسة شد العصا عبر تنفيذ اغتيالات دون كسر قواعد اللعب.

الفاتورة العالية

عامل آخر يربك حسابات إسرائيل ويدفعها إلى التفكير ملياً قبل التورط في عدوان بري آخر ضد قطاع غزة، يرجع لترسانة الأسلحة التي باتت فصائل المقاومة الفلسطينية تتملكها، بل أن جنرالات إسرائيل يعترفون أن لدى حماس وحركة الجهاد الإسلامي صواريخ تطال قلب تل أبيب، طبعا بالإضافة إلى أن أكثر من 250 ألف إسرائيلي في محيط غزة والمدن الكبرى حول المنطقة يقعون في مرمى النيران المنطلقة من القطاع، ولأن حماس في هذه المرحلة على ثقة بأن الجيش الإسرائيلي لن يدخل قوات برية إلى القطاع، فإنها على استعداد لمواصلة معركة طويلة تتعب العدو وتستنفد قدراته.

 وهنا ننوه بان الفصائل الفلسطينية تمكنت خلال السنوات القليلة الماضية من تطوير قدراتها العسكرية، وأمست تمتلك خططاً وقدرات تتكئ على مبدأ الكر والفر، وجر العدو إلى كمائن توقع في صفوفه القتلى، وهو تكتيك واجهه الجيش الإسرائيلي على نحو مصغر خلال عمليته العسكرية التي يطلق عليها أسم "الرصاص المصبوب"، بل أن الصحافة العبرية اعترفت في أكثر من مناسبة أن المقاومة الفلسطينية كادت أن تتمكن من آسر جنود إسرائيليين خلال العملية العسكرية عام 2009.

الجبال أعلى في طريق العودة

قد تجازف إسرائيل في حرب واسعة ضد حماس في قطاع غزة، وهي في الحقيقة تمتلك قدرة تدميرية وحشية تؤهلها إلى إعادة احتلال القطاع، ولو بثمن عال، لكن السؤال الذي عليها الإجابة عليه، ماذا سيحدث في اليوم التوالي؟ 

يخبرنا التاريخ أن إسرائيل خرجت من قطاع تجر أقدامها بعدما فقدت قدرتها على الصمود في وجه المقاومة، بل أن رئيس وزراء إسرائيل السابق، اسحاق رابين تمنى لو يبتلع البحر غزة. 

إن احتلال القطاع أو أجزاء واسعة منه ستؤدي إلى تلقي مسؤولية إسرائيلية عن سكانه، ولن يكون هنالك "عنوان مركزي" يمكن معه الحوار، كما أن الحساب الاقتصادي بحسب مراكز الأبحاث الإستراتيجية في تل أبيب تبين أن على إسرائيل أن تدفع فاتورة شهرية تبلغ قيمتها نحو 150 مليون دولار شهرياً تشمل توفير الحد الأدنى من مستلزمات العيش لسكان غزة، التي تكون القوة المحتلة ملزمة بتأمين مقومات الحياة لهم، وفقاً لقواعد القانون الدولي، هذا دون التطرق إلى نفقات إبقاء قوات عسكرية كبيرة داخل القطاع ومخاطر ذلك، وحرب الشوارع التي قد يتوقع لها أن تستمر مدة طويلة، ففي العلوم العسكرية وفي العلاقة بين حماس وإسرائيل لا يوجد لعبارة "ضربة وانتهينا" مكاناً.

علماً أن خروج إسرائيل لحرب جديدة سيزيد من عزلتها الدولية، وستكون مغامرة محفوفة المخاطر، إذ سينضم المزيد من الضباط الإسرائيليين إلى ما بات يعرف بالقوائم السوداء في دول العالم، وكذلك العداء سيزداد تجاه إسرائيل في الشارع العربي الذي بات له كلمة عليا تؤثر على الحكام الجدد، والخطوة أيضا ستحرج واشنطن التي ستفكر مرتين قبل اللجوء إلى استخدم حق النقض "الفيتو" ضد أي قرار سيدين إسرائيل.

الخلاصة

نهاية القول إن تكرار سيناريو هجوم بري إسرائيلي واسع على قطاع يبدو مستبعداً بحسب الإحداثيات التي طرأت على المشهد العربي والدولي، وحتى لو قررت إسرائيل القيام بخطوة حمقاء كهذه فلا يمكنها التنبؤ في كيفية نهايتها، فهي تتذكر جيداً حرب لبنان الثانية، وورطات "عناقيد الغضب" و"تصفية الحساب" والانتفاضة الثانية. فلا احد يستطيع أن يعلم كيف سينتهي القتال. بل أن التقدم يكون في العادة من مفرق حسم إلى آخر. من مفرق إلى مفرق، وفي كل مفرق يكون الاختيار بين الخروج أو التوسيع والتعميق في طرق ليست معبدة بالورود. والنصر حتماً لصاحب الحق.